زيارة دروز سوريا لإسرائيل- دلالات الانقسام ومخططات تل أبيب

أفادت وكالة الأنباء الفرنسية أن وفدًا مؤلفًا من قرابة ستين رجل دين من الطائفة الدرزية السورية، قد اجتازوا خط الهدنة في مرتفعات الجولان المحتلة باتجاه إسرائيل في يوم الجمعة الموافق للرابع عشر من شهر مارس/ آذار الجاري، في زيارة تعتبر الأولى من نوعها منذ ما يقارب الخمسين عامًا.
عبر هذا الوفد حدود المنطقة على متن ثلاث حافلات، يرافقها عدد من المركبات العسكرية الإسرائيلية، وصولًا إلى بلدة مجدل شمس الواقعة في الجولان السوري المحتل. ومن ثم، توجهوا شمالًا لزيارة مقام النبي شعيب الكائن في بلدة جولس القريبة من مدينة طبريا، بالإضافة إلى لقاء مع الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز في إسرائيل، الشيخ موفق طريف، وذلك وفقًا لمصدر مطلع ومقرب من الوفد.
ظاهريًا، تحمل هذه الزيارة طابعًا دينيًا، إذ أنها تتمحور حول زيارة أحد المقامات الدينية الهامة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. إلا أن مضمون الزيارة يحمل في طياته دلالات عميقة تستدعي التأمل، خاصة وأنها تتضمن لقاءً مع شخصية مرجعية درزية يعتبرها البعض مؤيدة للاحتلال الإسرائيلي في الداخل الفلسطيني. هذا الأمر يثير مخاوف البعض، خشية من استغلال الإعلام الإسرائيلي لهذه الزيارة لتصويرها على أنها تأتي في سياق "هرولة" الأقليات في سوريا نحو طلب الحماية من تل أبيب.
بين ظاهر الزيارة وباطنها، يكمن الواقع الدرزي الذي بدأ يستسيغه الإسرائيليون، وهو يتمثل في حالة التشتت والتصدع التي أصابت الطائفة الدرزية، لا سيما في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وما تبع ذلك من تطورات أمنية متسارعة، خاصة في مناطق الساحل السوري.
لقد دفعت الأحداث الأخيرة التي شهدتها سوريا الجيش السوري - إثر الكمائن التي نفذتها فلول النظام السابق في السابع من شهر مارس/ آذار الجاري، والتي استهدفت القوى الأمنية السورية وأسفرت عن سقوط العشرات من الضحايا - إلى شن حملة عسكرية واسعة تهدف إلى القضاء على تلك المجموعات المارقة الخارجة عن القانون، والتي تسعى جاهدة لتقسيم سوريا بمباركة ودعم إسرائيليين.
لهذا السبب، وتحت ستار "حماية الأقليات"، استغلت إسرائيل حالة الفوضى والاضطرابات التي أحدثتها تلك المجموعات لتقديم نفسها كحامية ومدافعة عن حقوق هذه الأقليات، حيث لم يتردد المسؤولون الإسرائيليون في عرض تقديم الحماية الأمنية لهم.
تشهد الطائفة الدرزية انقسامًا حادًا في وجهات النظر، بين مؤيد للدعوة الإسرائيلية التي أطلقها وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، والذي أكد من خلالها على استعداد إسرائيل لتقديم كافة أشكال الدعم للطائفة الدرزية في سوريا لحمايتها من الإدارة الجديدة التي وصلت إلى السلطة في الثامن من شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
وبين معارض بشدة لهذه الدعوة، بالنظر إلى أن إسرائيل لديها تاريخ أسود حافل بارتكاب المجازر بحق الطائفة الدرزية منذ احتلالها للجولان في حرب النكسة عام 1967، وصولًا إلى سيناريو الصاروخ الذي استهدف أطفال منطقة مجدل شمس في السابع والعشرين من شهر يونيو/ تموز الماضي، وأسفر عن مقتل عدد منهم، والذي تم إلصاق التهمة فيه بحزب الله. وتؤكد هذه الفئة على حالة "اللاثقة" المطلقة بكافة الوعود الإسرائيلية التي لا تهدف إلا إلى تحقيق مصالحها وأطماعها في سوريا كما في لبنان.
في الوقت الذي تجلت فيه صورة احتلال إسرائيل للمواقع الخمسة في جنوب لبنان بشكل واضح وجلي، حيث أكد كاتس في يوم الجمعة الموافق للرابع عشر من شهر مارس/ آذار، أن "جيشه سيبقى متمركزًا فيها إلى أجل غير مسمى، وذلك لحماية سكان الشمال"، بات الوضع على ما يبدو أكثر وضوحًا بالنسبة إلى الجنوب السوري أيضًا، حيث يبحث الإسرائيليون عن "ذريعة" للبقاء إلى أجل غير مسمى في المناطق التي وضعوها تحت سيطرتهم بعد سقوط نظام الأسد. ولهذا، قد يكون هذا الوفد، الذي سلك الطريق الذي استحدثه الاحتلال في الجولان السوري، قد منح إسرائيل الذريعة التي كانت تبحث عنها.
لم تكن تلك الزيارة التي قام بها الوفد للقاء الشيخ "موفق" موفقة بحق، لأنها جاءت في التوقيت الذي شهدت فيه العاصمة السورية لقاءً تاريخيًا جمع بين الرئيس السوري أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، وذلك يوم الاثنين الموافق للعاشر من شهر مارس/ آذار، حيث تم خلال هذه الزيارة التوقيع على اتفاق "الدمج" للقوات الكردية في الجيش السوري.
إن الدعوات الإسرائيلية لتقديم الحماية لم تجد لها آذانًا صاغية لدى الطائفة الكردية في شمال شرقي سوريا، حيث أدرك أكراد سوريا تمام الإدراك كيف يمكنهم قطع الطريق على المخطط الإسرائيلي الذي يهدف إلى تقسيم البلاد من أجل تحويلها إلى دولة مستضعفة وهشة.
تسعى إسرائيل جاهدة لتنفيذ مخطط جديد في سوريا بعدما سيطرت على مناطق واسعة، ونشرت قوات معززة من الجيش، وأقامت مواقع عسكرية متينة.
يهدف هذا المخطط إلى تشكيل واقع جديد على الأرض في سوريا، يمنح إسرائيل إمكانية المراقبة والسيطرة المحكمة على مناطق واسعة، وذلك بحجة ضمان أمن الحدود، ومنع وصول المقاتلين والتنظيمات المعادية لها إلى مناطق قريبة من حدودها ومن مرتفعات الجولان.
وكما هو الحال مع الأكراد، كذلك سيكون الحال مع الدروز، حيث لا مكان لإسرائيل في سوريا، وهذا ما تجلى بوضوح عند الأغلبية الساحقة من الطائفة الدرزية التي تعتبر وليد جنبلاط زعيمها وقائدها. فهو الذي بادر إلى زيارة دمشق على رأس وفد كبير من الطائفة لتهنئة الرئيس أحمد الشرع بتوليه مقاليد الرئاسة.
لقد جاءت تلك الزيارة لتؤكد على عروبة الدروز الأصيلة، وعلى انتمائهم الوثيق لهذا البلد، وعلى انخراطهم الفعال في مسيرة بناء الدولة السورية الحديثة ليشكلوا جزءًا لا يتجزأ منها.
ليس بجديد على دروز لبنان وسوريا رفضهم القاطع للتطبيع مع إسرائيل، إذ لطالما أكدوا على ذلك في أكثر من مناسبة ومقام، وإن البعض قد قرأ في كلمة النائب في كتلة اللقاء الديمقراطي، وائل أبو فاعور، في أثناء جلسة إعطاء الثقة لحكومة القاضي نواف سلام، أنها تعدت حدود "نيل الثقة"، لتلامس حدود جبل الشيخ الشامخ، لترفع لاءات جديدة مدوية في وجه إسرائيل وكل من يسعى للتعامل معها، "لا سلام ولا تطبيع ولا اعتراف بالعدو".
بل أقصى ما يمكن التوصل إليه هو اتفاق هدنة على غرار هدنة عام 1948 بين لبنان والعدو الإسرائيلي. وفي هذا الإطار، أصدرت مشيخة العقل الدرزية في لبنان بيانًا شديد اللهجة يندد بالمشاركة في الزيارة للأماكن المقدسة في فلسطين المحتلة.
إن حاجة إسرائيل لكسب ثقة دروز سوريا تفوق الوصف، وهي التي اتخذت من الأحداث المؤسفة التي حصلت في الساحل السوري ذريعة لتبعث برسائل واضحة إلى سوريا وجهات دولية، تؤكد فيها أنها لن تسمح بسيطرة تنظيمات معادية لها على مناطق قريبة من حدودها.
لكن على الرغم من أن إسرائيل ارتدت ثوب الحمل الوديع، فإن الطائفة الدرزية لن تنزلق إلى "أتون" الخديعة الإسرائيلية التي تسعى جاهدة لاستغلال شعور القلق والاضطراب عند البعض؛ من أجل تكريس وجودها المشبوه وإقامة مناطق عازلة تحمي مستوطنيها على حساب أمن واستقرار المنطقة بأسرها، فهل سيقع الوفد الدرزي في هذا الفخ الإسرائيلي المحكم؟